المنظمة السرية المسلحة OAS 2

ولم يكن الإرتجال هو الصفة المميزة الوحيدة للمنظمة السرية المسلحة بل هناك، أيضا، الغموض السياسي و الضبابية الإيديولوجية، وهي كلها صفات متأتية عن إختلاف المشارب التى إرتوى منها مؤسسوها و قادتها الفاعلون. ومما لا شك فيه أن الغموض يبدأ من التسمية ذاتها، فهي،في البداية، المنظمة السرية ، و حينما إنتبه بعضهم الى أن حزب الشعب الجزائري سبقهم الى ذلك سنة 1947 أضافوا لها صفة المسلحة ، و تسمى كذلك منظمة الجيش السري. ويعتمد أصحاب هذه التسمية الأخيرة على كون أغلبية أعضائها القياديين من قدماء الضباط السامين في الجيش وهم يعيشون حياة السرية بسبب إختلافهم سياسيا مع حكومة الجنرال ديغول .

وفيما يخص عدم الوضوح الإديولوجي، تجدر الإشارة إلى الإختلاف الجوهري بين القادة المؤسسين حول الأهداف النهائية و الوسائل التي يمكن استعمالها لبلوغ تلك الأهداف. وعلى سبيل المثال، فإن جوهو وقوداريريان أن الغرض الأساسي هو محاربة جبهة التحرير الوطني ومن ثمة فإنهما يعتبران مصالح الأمن الفرنسية وبعض الضباط السامين في الجيش حليفا طبيعيا يزودهم بالمعلومات الخاصة بتحركات مناضلي وإطارات الثورة، أما جان جاك سوزيني فإنه يضع في سلة واحدة الحكومة والجيش الفرنسي وجبهة التحرير الوطني لأجل ذلك، لجأ، منذ البداية، إلى تشكيل تنظيم داخل التنظيم أسماه الجبهة الوطنية وفتح صفوفه خاصة للطلبة ولقدماء ” جبهة الجزائر الفرنسية ” و ” البعث الفرنسي” الذين وزعهم على مجموعات تضم الواحدة منها خمسة وعشرين عنصرا.

يذكر الصحفي الأمريكي Paul Henissart أن تلك المجموعات ” أسندت قيادتها لأحد من الطلبة المتطرفين يدعى Jean Sarradet وحظيت بتدريب مكثف استعدادا لتأطير الإنتفاضة الشعبية التي يراهن عليها سوزيني ويرفضها قودار ” (25). ودائما حسب نفس المصدر، فإن الجبهة الوطنية قد استقطبت في وقت قصير جدا، أزيد من ألف طالب ” كانوا مفخرة
العقيد قارد وطلائع المنظمة السرية المسلحة ” (26).

هكذا، إذن، أصبحت المنظمة السرية المسلحة مكونة من ثلاث قوات أساسية متباينة في أوضاعها الإجتماعية ومختلفة كل الإختلاف من حيث التكوين السياسي والعسكري والمستوى الثقافي ومعزولة بعضها عن بعض بسبب انعدام الأرضية الإيديولوجية الموحدة. فهناك بالدرجة الأولى اتباع العقداء Argoud وGodard وBriosat وGardes الذين يؤمنون بأن الجزائر يجب أن تبقى فرنسية وبأن الجنرال ديغول لم يعد قادرا على تسيير شؤون الأمة الفرنسية وأصبح من المحتوم استبداله بالجنرال شال. ويتشكل هؤلاء الأتباع من الفارين من صفوف الجيش النظامية وخاصة وحدات اللفيف الأجنبي التي اشتهر من أفرادها النقيب Sergent والملازم Degneldre الذي ارتبط اسمه بالمجموعات الإجرامية “دلتا”. وتأتي في المرتبة الثانية القوات المشكلة من أبناء الكولون من ذوي الطبقة المتوسطة وخاصة منهم أبناء حي باب الوادي ويتزعم هذه المجموعات الدكتور جان كلود بيراز الذي كان يؤمن بأن ما يجري في الجزائر إنما هي المعركة الفاصلة بين المسيحية والإسلام وبين المسيحية والشيوعية والذي كان منذ سنة ست وخمسين وتسعمائة وألف قد تميز بتأسيس تنظيم إرهابي يستهدف في باب الوادي كل من يشتمُّ فيهم رائحة الإنتماء إلى جبهة التحرير الوطني. وتأتي في المرتبة الثالثة الجبهة الوطنية المشار إليها أعلاه.

ولأنه أشيع في أوساط الأوربيين أن الجزائريين، عندما يسترجعون استقلالهم، سيبيدون كل الفرنسيين أو يلقون بهم في أعماق البحار، فإن المنظمة السرية المسلحة قد وجدت أرضا خصبة في أوساط الجالية الأوربية وخاصة منها الطبقة الوسطى المشكلة من الموظفين والتجار والفلاحين الصغار. أما عناصر اللفيف الأجنبي فإنهم كانوا مدفوعين بعامل الغربة الذي صيرهم مرتبطين أشد الإرتباط بضباطهم السامين الذين أبدوا، منذ الوهلة الأولى، ميلهم اللامشروطة إلى كل تنظيم يلتزم العمل في سبيل الحفاظ على الجزائر الفرنسية.



وفي البدايات الأولى، عملت المنظمة السرية على مضاعفة الإنفجارات وتكثيف عمليات التخريب إلى جانب التركيز على الميدان الإعلامي حيث أصدرت العديد من المنشورات الداعية إلى الإنضمام لصفوفها والإمتثال لأوامرها والإنضواء، طوعا، تحت لوائها، ثم ظهرت جريدتها الرسمية المسماة ” نداء فرنسا” « Appel de la france » التي يشرف على تسييرها سوزيني نفسه، وفي نفس الوقت أصدر العقيد Broisat « Les centurions » وهي نشرية موجهة إلى سائر وحدات الجيش الفرنسي من أجل دعوتها إلى التمرد وتحريضها على العصيان. وفي اسبانيا قام العقيد أرقو بإصدار نشرة اسمها: « Problème Algérien » « Solution Française » حاول أن يوضح، من خلالها، فلسفة المنظمة.

وبينما كان العقيد أرقو ولاقايارد يدعوان الجنرال صالان المتخفي في المتيجة إلى الإلتحاق بإسبانيا ليكون مثيلا لفرحات عباس في تونس وشبيها بلينين الذي حضر الثورة الروسية حينما كان يعيش في فرنسا وبولونيا وسويسرا(27). فإن سوزيني كان يلح على الجنرال ليعود إلى العاصمة كي يأخذ زمام الأمور بجد وحزم قبل أن يشتد الإنقسام بين الأطراف الفاعلة في المنظمة. وكان سوزيني أكثر قدرة على الإقناع فاستجاب له صالان ورجع إلى حي الأبيار في مستهل شهر سبتمبر- أيلول-. وفي نفس الفترة وجه الجميع مذكرته رقم واحد وهي عبارة عن تعليمات سرية خاصة بتسليط الأضواء على مجموعة النقاط المتعلقة بواقع المنظمة في الجزائر وفي فرنسا مؤكدا ” أن التنظيم واحد وأنه المسؤول الأوحد عليه وهو مقسم فقط إلى فرعين أساسيين هما: المنظمة السرية المسلحة في الميتربول والمنظمة السرية المسلحة في الجزائر والصحراء. أما بالنسبة لجماعة مادريد فإنني أكرر مرة أخرى الأمر لأرقو ولاقايارد كي يحتلا مكانهما في هذا الفرع أو ذاك، وإذا رفضا هذا العرض فإنهما سيعتبران كما تعتبر كل المجموعات المعزولة “(28).

وكانت المذكرة إيذانا باندلاع نيران العنف الأعمى في الجزائر وفي فرنسا حيث انتشر الرعب وأصبح عدد كبير من التجار ورجال الأعمال يقدمون الجزية وحيث بدأ رد الفعل يتبلور في أوساط اليسار الفرنسي عامة وفي صفوف الحزب الإشتراكي على وجه الخصوص. وفي نهاية شهر سبتمير- أيلول- تحركت السلطات الرسمية ووجهت ضربات قاضية للتنظيمات المناهضة للجنرال ديغول وكذلك لأفراد الشرطة والإطارات والمسؤولين المتعاطفين مع المنظمة السرية المسلحة أو المتعاونين معها.

وخارج السلطة، فإن الأحزاب السياسية، باستثناء الحزب الشيوعي، لم تخف تعاطفها مع المنظمة السرية وذلك على الرغم من بعض المقالات والإفتتاحيات التي كان يوقعها من حين لآخر مثقفون ومسؤولون من مختلف أجنحة اليسار الفرنسي. وفي أثناء مداولات المجلس الوطني المخصصة للميزانية العسكرية والتي جرت يومي 8 و9 نوفمبر- تشرين ثاني- 1961، قامت مجموعة من النواب في مقدمتهم جورج بيدو وجان ماري لوبان (Georges Bidault et J.M. Lepen) بتحية المنظمة والتنويه بتوجهها الوطني، ثم قدمت تعديلا يقضي بتخفيض فترة الخدمة العسكرية الإجبارية إلى ثمانية عشر شهرا وبإرجاع ثماني فآت من المجندين إلى فرنسا حتى يتسنى لأنصار الجنرال صالان من السيطرة على الجيش العامل في الجزائر.