الكفاح السياسي للجزائر بين 1920 و1945

شهد الكفاح الوطني الجزائري في مرحلة مابعد الحرب العالمية الأولى،، تطوراً مهماً من خلال ظهور عدد من التنظيمات السياسية. وقد ساعد على ظهور هذه التنظيمات العديد من المؤثرات الداخلية والخارجية، منها السياسية الاستعمارية الفرنسية في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومنها مايتعلق بردود الفعل الوطني وخاصة الحركة الأدبية (الشعر)، إضافة إلى الصحافة الوطنية، كذلك المؤثرات العربية المشرقية، سواء عن طريق الاتصال المباشر بقيادة الحركة القومية العربية في المشرق العربي (شكيب أرسلان مثلاً) أو عن طريق الصحافة وغير ذلك، كل هذه العوامل ساهمت في إنضاج الوعي الوطني السياسي الذي أخذ يتكتل في تنظيمات سياسية ظهرت في مطلع العشرينات من هذا القرن8-.

بدأت الحركة الوطنية السياسية بنزعة (إصلاحية) من خلال ظهور (الحزب الإصلاحي) الذي أسسه الأمير خالد حفيد الأمير عبد القادر الجزائري وذلك في الفترة مابين 1920-1924، وهناك اتجاه دعا إلى الاندماج مع فرنسا وهو حزب (اتحاد المسلمين الجزائريين المنتخبين) الذي ظهر عام 1927 واستمر إلى فترة مابعد الحرب العالمية الثانية، والذي أسسه فرحات عباس والدكتور بن جلول والدكتور الأخضري، وكان يمثل مصالح الطبقة البرجوازية من المثقفين وكبار الملاك الإقطاعيين، لكن هذا الاتجاه لم يستطع أن يفرض وجوده في الساحة السياسية، لابل لقي معارضة شعبية واسعة، واقتصرت قواعده على أقلية محدودة ارتبطت مصالحها بمصالح الاستعمار9-.

أما الاتجاه الآخر، فقد كان يدعو إلى (الاستقلال الكامل) من كافة النواحي، ونشأ مع بداية نشوء الاتجاه الأول، وتمثل في مجموعة من التنظيمات السياسية والثقافية وهم (حزب نجم شمال أفريقيا 1926) الذي أسسه مصالي الحاج، وكانت قاعدته الأساسية هم العمال، وقد اتخذ بسبب ظروف الاحتلال أسماء متعددة منذ الثلاثينات حتى انتهى باسم (حزب الشعب 1937)، وفي هذه الفترة ولاحقاً، توسعت قاعدته، بحيث شملت العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة، واستمر على هذه التسمية حتى عام 1946، وقد انطبعت مسيرته النضالية على فكرة الوطنية بإعلان الاستقلال الكامل للجزائر.. وعلى فكرة الاشتراكية.. وعلى فكرة العروبة ثقافياً، إضافة إلى فكرة وحدة المغرب العربي. وكان هناك أيضاً (جمعية العلماء المسلمين 1928) فقد ساهم في تأسيسها الشيخ العقبي الذي عاش مدة في مكة والمدينة وعاد إلى الجزائر، كما برز ابن باديس وتولى جمعية العلماء حتى وفاته في أيار –مايو- 1940، وقد كان المنهج الديني للجمعية يقوم على تخليص الدين من كل الشوائب والخرافات والسحريات التي علقت به، وكان منهجها الثقافي يقوم على التدريس والتثقيف باللغة العربية واستهدفت ترسيخ (فكرة القومية العربية والمغربية المدعومة بعظمة الماضي الجزائري)، ولم تقف عند الطريقة التقليدية لاكتساب معارف الماضي، وإنما سعت إلى اقتباس وتعلم وتعليم العلوم العصرية لكي (يستوعب الطالب العلوم العصرية ومضمون الثقافة الحديثة عبر اللغة العربية) وقد أسست الجمعية مراكز كبرى لنشر المعرفة قديمها وحديثها لتنوير الرأي العام الوطني، واتجهت لمقاومة أصحاب الزوايا وترهاتهم المشؤومة للدين الحنيف. وقد ناصبتها السلطات الاستعمارية العداء في محاولة للقضاء عليها، ولكن رسوخها شعبياً ساندها في دوام استمرارها وفعلها المؤثر10-.

(وقد هيأت جمعية العلماء هذا الشعب للاستقلال لما لقنته من معاني الحياة الشريفة وبما ثبتت فيه من معاني العروبة والوطنية والحرية وبما ربطته بالشرق ربطاً محكماً)11-. وكانت القاعدة الاجتماعية للجمعية تتمثل بعلماء الدين الكبار والصغار والمثقفين والعمال والفلاحين، برئاسة الشيخ عبد الحميد بن باديس ومن بعده الشيخ الإبراهيمي ثم الشيخ أحمد توفيق المدني، وهذه الجمعية عززت مفهوم الاستقلال من الناحية الثقافية، فساعدت على (تطوير الوعي الوطني عند الجزائريين) من خلال تعاليمها (التحررية والتقدمية) و (رفضها لكل سياسة تنادي بإدماج الجزائر في فرنسا) واستمرت على هذا الاتجاه في فترة مابعد الحرب الثانية، ثم التقت مع جبهة التحرير الوطني الجزائرية. إضافة إلى ذلك، كان (الحزب الشيوعي الجزائري 1924) الذي استقل عن الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1936، ووضع برنامجاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً يقوم على المطالبة بالاستقلال الوطني12-. وخلال فترة مابين الحربين، واكبت النهضة الأدبية المغاربية، النهضة الثقافية والسياسية وهي وإن أدت دورها بلغة المستعمر، إلا أنها فكرت بروح عربية مسلمة حركة الأفكار للرد على الخصم الاستعماري بلغته، وتعريف الرأي العام الفرنسي عن طريق مختلف وسائل الإعلام العلنية والسرية بمطامح الشعوب المغاربية وكسبهم لنصرة القضية الوطنية في المغرب العربي أو على الأقل( التخلي عن تأييد مطامع العنصريين أصحاب السلطة الحقيقية في أقطار المغرب). وقد دام هذا الوضع حتى فترة مابعد الحرب العالمية الثانية فتحول الفوز الفكري من الأدب إلى أعيان السياسة وكل من انبرى دفاعاً عن الحق الوطني في المغرب العربي13-.

إن هذين الاتجاهين (الاندماجي) و(الاستقلالي)، هما اللذان طبعا مسيرة الكفاح السياسي الجزائري منذ مرحلة العشرينيات وحتى فترة الحرب العالمية الثانية، حيث بدأ الاتجاه (الاستقلالي) يطبع الحركة الشعبية عامة وخاصة بعد (مجزرة) 8 أيار –مايو- 1945. ومنذ هذه الفترة تشكلت النواة الأولى للكفاح المسلح وبدأت بوادر التداخل بين العمل السياسي والمسلح والذي نضج فيما بعد من خلال الحركة الوطنية الجزائرية والجبهة التي انبثقت عنها.