أزمة في فرنسا بسبب مواقف ديغول

في عشية اليوم الثامن عشر من شهر مارس سنة اثنتين وستين وتسعمائة و ألف أعلن المتفاوضون الجزائريون والفرنسيون عن توصلهم، في النهاية إلى التوقيع على اتفاقيات ايفيان التي إشتملت على ثلاث وتسعين صفحة وتطلبت صياغتها اثني عشر يوما (1). وبموجب هذه الإتفاقية تقرر وقف إطلاق النار في الجزائر يوم 19/03/1962 عند منتصف النهار وتحدد إجراء الإستفتاء الشعبي في فاتح جويلية – تموز من نفس العام.

فبالنسبة لجبهة التحرير الوطني، كان الحدث إنتصارا كبيرا لأن كل الأهداف التي جاءت في نداء أول نوفمبر – تشرين الثاني- قد تحققت. ورغم أن ذلك تطلب وقتا طويلا وتضحيات جساما، فإن إسترجاع السيادة الوطنية لايقيَّم بثمن كما لاتقيَّم بثمن سلامة التراب الوطني ووحدة الشعب، لكن هذا لم يكن هو رأي قيادة أركان جيش التحرير الوطني التي شاركت في المفاوضات بممثلين اثنين ثم أعربت عن عدم اقتناعها بالنتائج النهائية معربة عن تفضيلها للحل العسكري ورفضت التوقيع على الوثيقة، الأمر الذي جعل الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تلجأ، في آخر لحظة، إلى تعيين ضابط سام للمساهمة في مراسيم التوقيع بدلا عن نائبي قائد الأركان اللذين كانا قد حضرا كل مراحل التفاوض.

وكان ذلك الموقف التمردي من قيادة أركان جيش التحرير الوطني قطرة جديدة في كأس خلافاتها مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والتي ظهرت، رسميا، في شهر جويلية- تموز- سنة 1961 عندما أسقطت وحدات جيش التحرير الوطني طائرة تابعة لسلاح الجو الفرنسي وأسرت قائدها؛ لكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية تجاوزت رغبة قيادة الأركان وسلمت الأسير إلى الرئيس الحبيب بورقيبة الذي كان قد أصر على ذلك كون الطائرة سقطت على الأراضي التونسية. وقد أدى موقف الحكومة ذلك إلى إستقالة قيادة الأركان بواسطة رسالة أقل ما يقال عنها إنها لم تتوقف عند حدود اللياقة وجعلت صاحب التوقيع عليها- العقيد هواري بومدين- يدخل في تناقض مع نفسه إذ نجده، من جهة، يقدم الإستقالة إلى رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية وهذا في حد ذاته اعتراف بمسؤوليتها، ومن جهة ثانية يهدد باللجوء إلى تحكيم القادة المعتقلين في فرنسا الذين لم يكونوا سوى أعضاء بها. وكان الأحرى أن يتحدث عن تحكيم المجلس الوطني للثورة الجزائرية الذي هو أعلى قيادة شرعية على الأقل (02).

وفيما يخص فرنسا، فإن جل المسؤولين الفاعلين و الإطارات المتبصرة و أغلبية جماهير الشعب قد اعتبروا وقف إطلاق النار في الجزائر إنقاذا للجمهورية الفرنسية الخامسة و قد عبر على ذلك “الكانار أنشني” L e Canard enchainé حيث كتب بالبنط الكبير “إلي ديغول، أن البلاد يقدم أية العرفان و الشكر “.

هكذا،إذن، فإن أغلبية الشعبين في الجزائر وفي فرنسا قد إستقبلت وقف إطلاق النار بارتياح كبير معتقدة أن مكاسبها أكبر من مكاسب الطرف الآخر .و إذا كان الجزائريون يرون أنهم الأجدر بالإفتخار لأنهم إستطاعوا أن يتجندوا في إطار حركة جهادية نالت إعجاب العالم و مساندة القوى التقدمية فيه وقاومت واحدة من أعظم الدول الإستعمارية ثم أرغمتها على الإعتراف بالسيادة الوطنية مؤكدة بذلك ثأرها لهزيمة الخامس من جويلية –تموز- سنة 1830، فإن الفرنسيين يزعمون أنهم عرفوا كيف يخرجون بدون هزيمة مثل هزيمة “ديان بيان فو” من حرب استعمارية دامت طويلا وكلفت كثيرا وكادت أن تعصف بالكيان الفرنسي نفسه.

ولئن كان من حق كل جانب أن يفسر لصالحه ظروف وقف إطلاق النار ونتائجه، فإن ثمة حقيقية لايمكن تجاوزها وهي أن إنهاء حالة الحرب بين جبهة التحرير الوطني والدولة الفرنسية قد ترتبت عنه أزمتان دمويتان في كل من الجزائر وفرنسا، وكان لتلك الأزمتين بالغ التأثير على مستقبل كل واحد من البلدين من جهة وعلى تطبيق اتفاقيات من جهة ثانية. لأجل ذلك، فإن الدارس مطالَبْ، لفهم التاريخ وكتابته، بالتوقف عند تلك الأحداث التي هزت أركان البلدين عشية إبرام الإتفاق وغداته وكادت أن تحول الإنتصار في كل من البلدين إالى حرب أهلية.